الأنفال الأولى
نُفِّذت المرحلة الأولى من الإبادة الجماعية الأنفال ما بين 23 شباط و19 آذار 1988، حين شنَّ الجيش التابع لنظام البعث العراقي هجماتٍ واسعة على مناطق دۆڵی جافايەتی وشار باجێر، واستهدفت خصوصًا قريتي سەرگَلو وبەرگَلو من ثلاثة محاور رئيسية بقصفٍ مدفعي كثيف وهجومٍ بري شامل.
وفقًا لوثائق النظام البعثي، بدأت العمليات بين 23 و26 شباط 1988، لكنّ شهادات الأهالي والمقاتلين من الپێشمەرگة تؤكد أن الإبادة الجماعية لأنفال بدأت فعليًا في 9 شباط 1988.
قاد العملية الفريق الركن سلطان هاشم أحمد، قائد الفيلق الأول، بمشاركة الفريق الركن نعمان فارس حسين، قائد الفيلق الخامس، وتحت الإشراف المباشر لكلٍّ من عدنان خير الله وزير الدفاع وعلي حسن المجيد رئيس المكتب الشمالي لحزب البعث. كما شارك الفريق الركن نزار عبد الكريم الخزرجي (نائب رئيس أركان الجيش للعمليات) والفريق الركن حسين رشيد التكريتي (مدير العمليات).
بدأت الهجمات الأولى قرابة الساعة الواحدة والنصف إلى الثانية فجرًا في 23 شباط، حين استيقظ سكان قرى ياخسەمەرو وسەرگَلو وبەرگَلو في ظلمةٍ ومطرٍ على أصوات القصف المدفعي والانفجارات. كانت سەرگَلو قريةً تضم حوالي 500 منزل وقرابة 3500 نسمة، وتُعدّ قاعدةً لوجستيةً لقوات الپێشمەرگة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني (PUK). كانت قريبة من سد دوكان الذي يزوّد مدينتي السليمانية وكركوك بالكهرباء، وتضم مستودعاتٍ وطرقًا وخطوط إمدادٍ للمقاتلين.
لكن الهدف الرئيس للنظام لم يكن مجرد السيطرة على مواقع الپێشمەرگة، بل تدمير البنية التحتية المدنية برمّتها في المنطقة، بما في ذلك 25 إلى 30 قرية.
وبحسب الشهادات والسجلات الرسمية، فقد قُتل نحو 200–250 شخصًا خلال تلك الهجمات. وبحلول مطلع آذار، وبعد السيطرة الكاملة، استخدمت وحدات الهندسة العسكرية الجرافات لتسوية القرى بالأرض. أُغلقت المنطقة من ثلاث جهات، ولم يُترك سوى ممرٍّ ضيّقٍ طوله 12 ميلًا باتجاه الحدود الإيرانية.
قوات النظام، بمساندة ما يُعرف بـ«الجحوش» (العملاء المحليين)، حاصرت القرى واعتقلت أو أعدمت الفارّين نحو إيران. ويُظهر ذلك أنّ سياسة النظام منذ البداية كانت تفريغ وتدمير القرى الكردية بالكامل، تنفيذًا لقرار رقم 4008 الصادر عن مجلس قيادة الثورة، الذي أجاز القصف والاعتقال الجماعي في ما سُمِّي بـ«المناطق المحرّمة».
إنّ هذه العملية من الاختفاء القسري والإبادة الجماعية لم تكن عملاً عشوائيًا، بل جزءًا من سياسة دولةٍ منظّمةٍ لإبادة الشعب الكردي.
في صباح 23 شباط تقدّمت قوات النظام البرية من كل الاتجاهات وشرعت بهجوم شامل. كانت القوة التي استهدفت قواعد ومستودعات البيشمركة تشكيلاً عسكرياً كبيراً تحرّك على جبهة واسعة، بطول يقارب أربعين ميلاً نحو الحوض الشرقي لسد دوكان باتجاه السليمانية والمدن والقرى الصغيرة المجاورة. استطاعت قوات البيشمركة أن تصمد دفاعياً لأكثر من ثلاثة أسابيع، إلا أنّ قوات النظام تمكنت لاحقاً من كسر الخطوط.
تفيد تقارير المخابرات ودائرة الأمن في السليمانية وأركان الفيلق أنّ النظام رصد تنسيقًا عسكريًا بين بعض وحدات البيشمركة (بعضها وصف بأنه مؤجّر أو مأجور) وقوات إيرانية. وأوردت أجهزة الاستخبارات العراقية أنّ عناصر من الحرس الثوري استخدمت قواعد إمدادها، كما استُخدمت طائرات مقاتلة ثابتة الجناح من أنواع متعددة (سوخوي، ميراج، ميغ) لقصف مراكز إمداد البيشمركة ومستودعاتها. بالإضافة إلى ذلك، استُخدمت طائرات خفيفة نقل/خدمة من نوع (Pilatus) السويسرية الصنع في بعض المهام. في بعض الهجمات كان يتم توجيه هجمات من 15 إلى 20 طائرة على الهدف نفسه بالتنسيق.
خلال المرحلة الجوية استُهدفت القرى التي فتحت بواباتها أو حاول أهلها الفرار، وأُحرقت بعض المناطق؛ ثم أرسى النظام موجات قصف إضافية — ست طلعات أخرى بعد ظهر ومساء ذلك اليوم — أسقطت خلالها قنابل على المنطقة. وتفيد التقارير أنّ نحو 28 شخصاً قُتلوا وحوإلى 300 جُرحوا نتيجة ذلك القصف الجوي.
تشكّلت قوة برية كبيرة شملت عدّة ألوية وأفواج تحت قيادة الفيلق، مدعومة بمدفعية ثقيلة ودبابات وتغطية جوية؛ وشاركت وحدات خاصة وعملاء محليون (ممن يُطلق عليهم «الجاش») في العملية. بعد الحملة العسكرية عمد النظام إلى ترويجها إعلامياً واحتفل الصحف والدوائر الرسمية بنجاح «المرحلة الأولى من الإبادة الجماعية لأنفال»، وجرى إرسال مئات رسائل التهنئة وعروض الولاء من الجاش والمستشارين لصدام حسين.
أدى سقوط خطوط الدفاع في جبال الجزيرة إلى فرار أعداد كبيرة من البيشمركة والمدنيين نحو إيران، حيث واجهوا ظروفاً شتوية قاسية في المناطق الوعرة: تعرّض المئات — لا سيما النساء والأطفال — لخسائر في الأرواح والماشية والمؤن نتيجة البرد والإرهاق. وقد أشارت شهادات عينية إلى دور البيشمركة في مساعدة المدنيين على الخروج والنجاة في تلك الظروف.
وردت أيضاً تقارير، منها مذكرة أمنية سرية لاحقة وبيانات منشورة بعد ذلك، تفيد بأنّ النظام درس استخدام أسلحة كيميائية ضد السليمانية وأنه أعد مذكرات استخباراتية تزعم وقوع خسائر كبيرة نتيجة نشاطات البيشمركة في الحلبجة وقضاء الجزيرة، ما ساهم في الدفع نحو إجراءات قمعية متشددة.
تم إجبار أعداد كبيرة من المدنيين على الهرب، والكثير ممّن وقعوا بأيدي قوات النظام واجهوا مصائر مشابهة للمعتقلين سابقاً على الحدود — اعتقالاً أو إعداماً أو اختفاءً قسرياً.
بعد انهيار خطوط الدفاع التابعة للبيشمركة في جبال جافايەتي، لجأ المقاتلون وآلاف المدنيين نحو الحدود الإيرانية. في ظروف الشتاء القاسية، وسط العواصف الثلجية والبرد القارس، عجز مئات الأشخاص — وخاصة النساء والأطفال — عن مواصلة المسير في الممرات الجبلية الصعبة، وفقدوا حياتهم. مئات الرجال والعائلات والمواشي والخيول والبغال جُمّدوا حتى الموت في الثلوج الكثيفة. وقد أُشير في شهادات الناجين إلى دور البيشمركة في مساعدة المدنيين على العبور والنجاة.
وخلال تلك الهجمات والعمليات العسكرية، ترددت شائعات بأن النظام يخطط لتدمير مدينة السليمانية ويستعد لاستخدام الأسلحة الكيميائية. وأشارت مذكرة سرّية للشرطة لاحقًا إلى مقتل نحو ستمئة مقاتل من البيشمركة في حلبجة ووادي جافايەتي.
وفي الأثناء، بثّ راديو صوت البيشمركة تحذيرات متواصلة للسكان لحماية أنفسهم من الهجمات الجوية والبرية. اضطر عدد كبير من المدنيين إلى الفرار وترك منازلهم وممتلكاتهم، فيما أُعدم أو اعتُقل من وقع في أيدي قوات النظام، حتى أولئك الذين بلغوا الحدود واجهوا الاختفاء القسري أو الإعدام.
بعد ثلاثة أسابيع فقط من بدء الإبادة الجماعية لأنفال، تعرّضت مدينة حلبجة ومحيطها إلى قصف كيميائي أسفر عن مقتل نحو 5000 مدني وإصابة 10000 آخرين.
خلال المرحلة الأولى من الإبادة الجماعية لأنفال، نُفذت أكثر من 100 هجمة عسكرية من محاور متعددة، دُمرت فيها النواحي والقرى والمناطق الجبلية في وادي جافايەتي. ومن القرى والقواعد التي دُمّرت:
شاخ گوجار، گاپیڵۆن، قمچوغه، شاخ رەش، دۆڵە روت، قزلەر، قرەنگوێ، مۆلان، قرەسەرد، پیر بایز، دۆڵی مازەلە، قەڵەم باشا، آسوس، قرەچەتان، دۆڵەبی، شەدەلە، پیرەمەگرون، زێوە، گەڕەدێ، گەورەدێ، شاخی دابان، شارستین، سێدەر، هەنجیرة، کڵاو سپی، سەرمۆرد، مالومة، و چالاوە.
في ليلة 18–19 آذار 1988، انتهت المرحلة الأولى من الإبادة الجماعية لأنفال. وفي 19 آذار، أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية بيانًا عسكريًا رقم 3087 أعلنت فيه عن «انتصار كبير وغير مسبوق على المخربين والعملاء المأجورين».
وبعد ثلاثة أيام فقط، بدأت المرحلة الثانية من الإبادة الجماعية لأنفال.
بعد سقوط نظام البعث عام 2003، بدأت عمليات الكشف عن المقابر الجماعية. وفي 17 كانون الثاني 2008، جرى انتشال رفات 358 من ضحايا الإبادة الجماعية لأنفال من قرى وادي جافايەتي والمناطق المجاورة، قرب نوگرەسەلمان، وأُعيد دفنهم في مراسم رسمية.
بعد سقوط نظام البعث، بدأت عملية البحث والتنقيب وإعادة دفن المقابر الجماعية لضحايا الإبادة الجماعية لأنفال. ففي 17 كانون الثاني 2008، تم انتشال رفات 358 من ضحايا الإبادة الجماعية لأنفال من قرى وادي جافايەتي والمناطق المحيطة قرب نوگرەسەلمان، وتم التعرف عليهم وإعادة دفنهم رسميًا في قضاء دوكان.
وفي عام 2010، أُقيم نُصب الإبادة الجماعية لأنفال في وادي جافايەتي في موقع الدفن داخل قضاء دوكان. وقد نُقشت أسماء 482 من ضحايا أنفال على جدار النصب التذكاري تخليدًا لذكراهم وتوثيقًا للجرائم التي ارتُكبت خلال الإبادة الجماعية لأنفال.
المصادرو وثائق النظام البعثي المنحل
- MEW، كتاب الإبادة الجماعية في العراق وحملة أنفال ضد كردستان.
- وثائق المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني.
- المتابعة الميدانية والبحث (بدوداچوون ولێکۆلینەوە).
- المجلات والصحف الصادرة في عهد البعث.
* ملاحظة حول سلطان هاشم:
الفريق الركن سلطان هاشم أحمد محمد الطائي خدم في الفرقة الرابعة قائدًا للواء الخامس مشاة، ثم قائدًا للفرقة الرابعة، ثم قائدًا للفيلق الخامس، ولاحقًا قائدًا للفيلق الأول خلال حرب إيران–العراق (1980–1988)، وكان من أبرز القادة العسكريين المسؤولين عن عمليات أنفال.
تنويه بشأن المصطلحات:
المصطلحات التي استعملها النظام البعثي في وثائقه — مثل «بەكرێگیرا» (المأجور/المرتزق)، «تێكدر» (المخرّب)، «مجرم» وغيرها من الألفاظ المهينة — كانت تُطلق على كل كردي (باستثناء «الجحوش»)، سواء كان بيشمركة أو مدنيًا. في هذا النص نورد هذه الألفاظ كما وردت في الوثائق الأصلية بهدف حفظ الأمانة التاريخية وكشف اللغة اللاإنسانية التي استخدمها النظام كجزء من سياساته في الإبادة الجماعية.



Leave feedback about this