المرحلة الثالثة الأنفال
تُعدّ المرحلة الثالثة من أنفال من أكثر الحملات تدميرًا ووحشيةً التي نفذتها دولة العراق في زمن النظام البعثي ضد الأكراد. بعد انتهاء المرحلة الثانية واعتقال سكان قرهداغ، شنّ النظام هجومًا واسعًا على منطقة گرميان.
بين 7 و20 نيسان 1988، وتحت قيادة الفريق الركن سلطان هاشم (قائد الفيلق الأول) والفريق الركن كامل ساجت (قائد الفيلق الثاني)، وبإشراف مباشر من عدنان خير الله (وزير الدفاع)، وعلي حسن المجيد (مسؤول مكتب الشمال لحزب البعث)، ونزار عبد الكريم الخزرجي وحسين رشيد التكريتي، نُفذت عمليات عسكرية ضخمة.
دُمّرت جميع مناطق دوزخورماتو، قادر كرم، كفري، كلار، چمچمال، تيليكو، بيباز، سنگاو، تكية وآغجلر. ووفقًا للوثائق الرسمية، جرى تدمير أكثر من 500 قرية واعتقال وإخفاء نحو 30 ألف مدني، بينهم نساء وأطفال وشيوخ.
أفاد الشهود أن مسؤولي البعث المحليين والجاش (المتعاونين الأكراد مع النظام) روّجوا دعايةً كاذبة، مفادها أن الحكومة ستمنح كل عائلة قطعة أرض بمساحة 300 متر ومنزلًا جديدًا، في محاولة لخداع السكان ودفعهم إلى مغادرة قراهم.
كانت هذه المرحلة الأكثر قسوة في سلسلة عمليات أنفال. وعلى الرغم من مقاومة البيشمركة، فإن الحصار وانقطاع الإمدادات جعلا من المستحيل الصمود أمام قوة الجيش العراقي. فرّ العديد من المدنيين إلى الجبال هربًا من القصف والغازات الكيميائية. وقام الجيش بتدمير المنطقة بالكامل وقتل أو تهجير كل من بقي فيها.
نُفذت العملية عبر ثلاث هجمات رئيسية:
- محور دوزخورماتو في 7 نيسان، تزامنًا مع ذكرى تأسيس حزب البعث، حيث خرجت القوات من قواعدها ودمّرت القرى المحيطة.
- المحور الثاني من كركوك و چمچمال و سنگاو باتجاه قادر كرم، حيث دُمّرت 17 قرية وقُتل 11 من مقاتلي البيشمركة وأُعدم 3281 مدنيًا في منطقة داوە.
- المحور الثالث استهدف قرية تازەشار في 9 نيسان، بسبب موقعها الاستراتيجي بين دوزخورماتو وقادر كرم، وتم تدمير قرى كاني قادر العليا والسفلى، آوای شيخ حميد، كريم بسم، وعزيز بيگ واعتقال سكانها.
وفي نهاية هذه المرحلة، أصبحت منطقة گرميان خاليةً تقريبًا من سكانها بعد أن مُسحت قراها من الوجود.
على الرغم من أنّ الوثائق والتقارير الرسمية لا تتحدّث صراحةً عن استخدام الأسلحة الكيميائية في المرحلة الثالثة من حملة الإبادة الجماعية (الأنفال)، إلا أنّ عدداً من الشهود العيان يؤكّدون بأنهم رأوا بأعينهم استعمال السلاح الكيميائي. بل إنّ التسجيلات اللاسلكية التي جرى التقاطها بين قادة الجيش العراقي تُظهر أحاديث تؤكّد أنّ “الغاز هو الوسيلة الوحيدة للقضاء على المتمرّدين وكسر مقاومتهم”.
وقد شوهدت طائرة “هوكر هنتر” بريطانية الصنع أثناء قصفها قرية تازەشار، حيث عُثر في الموقع على كميات كبيرة من البودرة والرماد الأبيض. كما روت امرأة من قرية شيخ حميد أنّها شاهدت جثث خمسةٍ وعشرين من مقاتلي البيشمركة الذين اختنقوا بالغاز. في البداية لم تكن تعلم أن الوفاة كانت نتيجة غازٍ سام، لكنها عندما رأت أعداداً كبيرة من الماعز والأبقار والحيوانات النافقة في نفس المكان، أدركت أن سلاحاً كيميائياً قد استُخدم هناك.
وهناك احتمال كبير أن يكون هجوم كيميائي ثانٍ قد نُفّذ في 10 نيسان (أبريل)؛ إذ يروي أحد الرعاة من قرية علوي أن مجموعةً من مقاتلي البيشمركة مرّت بالمنطقة ليلاً، ثم قامت طائرةٌ بقصفها منتصف الليل، مما أسفر عن مقتل عشرة أشخاص.
أمّا الهجوم الثاني فاستهدف قادر كرم وشمال منطقة گرميان. القوات التي خرجت من كركوك وچمچمال تقدّمت نحو المنطقة في 10 نيسان 1988 تحت إشراف العميد في القوات الخاصة بارق عبد الله الحاج حنطة الزبيدي. وصلت القوات إلى المنطقة دون مقاومة تُذكر، ولم تقع اشتباكات تُذكر مع قوات البيشمركة. في هذا الهجوم قامت وحدة من الـجاش بتدمير قريتي چپك وإبراهيم غولامي.
كانت قرية إبراهيم غولامي، التابعة لعشيرة الزنگنة والمتصلة بمنطقة الجباري، من أكثر المناطق التي تعرّضت إلى الدمار والنهب والحرق خلال المرحلة الثالثة من الأنفال. ففي جميع هذه الهجمات، كان الـجاش الأكراد يتقدّمون صفوف الجيش العراقي لدخول القرى، فإذا حدث قتال، كانوا أول الضحايا، وإذا لم يحدث قتال، عمدوا إلى نهب الممتلكات وحرق البيوت وتدمير القرى بالكامل.
سكان تلك القرى كان معظمهم قد لجأ إلى الجبال، غير أنّ البعض منهم وقع في قبضة الجيش وتمّ ترحيلهم قسراً واختفوا لاحقاً. كانت هذه المنطقة استراتيجية وغنية الأهمية، ليس فقط بسبب النشاط العسكري لقوات البيشمركة فيها، بل أيضاً لقربها من مدينة كركوك النفطية. ولهذا السبب، تعامل نظام بغداد مع سكانها بأشدّ درجات الوحشية والقسوة، حيث اعتقلهم ورحّلهم دون تمييزٍ بين الكبير والصغير، الرجل والمرأة، أو الشيخ والطفل. ووفقاً لإحدى الإحصاءات، فقد بلغ عدد ضحايا الأنفال من منطقة الجباري نحو 539 شخصاً.
ومن بين تلك القرى قرية قيرچە، حيث جُمِع الرجال بعد الهجوم في مكانٍ واحد، وقيّدت أيديهم من الخلف، ثم نُقلوا إلى أماكن مجهولة المصير.
أما المتعاونون والمستشارون (المختارون) الذين شاركوا في الأنفال الثالثة في هذه المنطقة فهم: المستشار بدناو معتصم البرزنجي، وعدنان وسيد جباري، ورفعت گلي، وقاسم آغا، وتحسين شاويس. وكان هؤلاء السبب الرئيس في تسليم سكان المنطقة إلى القوات العسكرية، ثم جرى ترحيلهم وإخفاؤهم قسراً فيما بعد.
كان المستشارون يخدعون الأهالي ويقولون لهم إنّ الحكومة ستمنحهم العفو إذا سلّموا أنفسهم طوعاً للجيش، ولن يصيبهم أذى. وقد روت امرأة أنّها توسّلت إلى أحد المستشارين قائلة: “ساعدني على الهرب من الجيش”، فأجابها قائلاً: “لا أستطيع فعل شيء لكِ، الأفضل أن تسلّمي نفسك”.
ومع ذلك، فقد ندم بعض المستشارين والـجاش بعد أن شاهدوا فصل النساء عن الرجال وترحيلهم، وأدركوا حجم الجريمة التي ارتكبوها. ووفقاً لـ نشرة الاستخبارات في دوزخورماتو رقم (10340) بتاريخ 10 نيسان 1988، فإنّ إحدى وحدات الـجاش، وهي الوحدة رقم (25)، تمّ سحبها من المنطقة بعد رفضها تنفيذ المهام الموكلة إليها.
كانت الحملة الثالثة من الأنفال موجّهة نحو منطقة سنگاو وجنوب گرميان، وجاءت بعد الهجومين السابقين على دُوزخورماتو، قادر كرم وشمال گرميان.
فقد شنّ النظام البعثي هجوماً واسع النطاق على هذه المناطق، حيث قامت القوات العراقية بشنّ عملياتٍ متزامنة من عدّة محاور استهدفت تدمير القرى واعتقال سكانها.
كانت هذه المرحلة من الأنفال من أوسع وأعنف المراحل، إذ دُمّرت معظم القرى في المنطقة، واعتُقل عددٌ هائل من المدنيين. ففي يومٍ واحد فقط، 14 نيسان (أبريل) 1988، تمّ اعتقال المئات من سكان قريتي ملەسورە وكولەجو حاجي حەمەجان، بينهم نساءٌ وأطفالٌ وشيوخٌ وشبّان، وتمّ ترحيلهم قسراً إلى أماكن مجهولة المصير.
منطقة سنگاو وحدها كانت تضم 93 قرية، وكان يسكنها قبل الحملة حوالي ثمانية عشر ألف نسمة، وقد تعرّض معظمهم للاعتقال أو الاختفاء القسري أثناء العمليات. ومن القرى التي دُمّرت في هذه المرحلة:
درەوار، بانەمورد، پنجأنگوستي، حاجي محمد آغا، پنجأنگوستي شيخ مصطفى، هنچيره، سيگومتان، كێڵەبەرزە، درزيلە، قلاغە، دار بەرّو.
كما أُلقي القبض على عددٍ من المدنيين والمقاتلين من البيشمركة الذين كانوا قد لجؤوا إلى الجنوب هرباً من معارك قادر كرم وشمال گرميان، وتمّ ترحيلهم لاحقاً قسراً.
أما مناطق جنوب گرميان المتاخمة للمناطق المعرّبة التابعة لمحافظة ديالى، فقد تعرّضت هي الأخرى لهجومٍ كبيرٍ فجر 9 نيسان (أبريل)، حين تقدّمت قواتٌ ضخمة من كفري، كلالا، پێباز وبونگەلە في اتجاه المنطقة.
وكانت الاستراتيجية العسكرية المتبعة في هذا الهجوم هي نفسها التي استُخدمت في هجوم شمال گرميان، أي تنفيذ عملية تطويقٍ واسعة من عدّة محاور في وقتٍ واحد، بهدف محاصرة القرى، اعتقال السكان جماعياً، تدمير القرى تماماً ونهب الممتلكات.
قاد العمليات في محور كفري ضابطٌ يُدعى سامي، وهو قائد لواءٍ تابعٍ للفيلق الأول الذي كان تحت قيادة الفريق الركن سلطان هاشم.
وفي 10 نيسان، تمّ تدمير نحو عشرين قرية بالكامل، منها:
چوارشاخ، علياني تازه، توكن، ميل قاسم، دوڕاجي، بلگهگوره، بلگهچوك، عومربل وغيرها.
وشاركت في الهجوم وحدات المشاة 417 و418، بالإضافة إلى وحدات الدفاع الوطني 100، 131، 197، التي قامت باحتلال القرى واعتقال السكان وترحيلهم.
أما القوة الثانية المشتركة التي خرجت من كلار، فقد كانت بقيادة النقيب عبد عواد، قائد الوحدة 417 مشاة، حيث شنّت في 11 نيسان هجوماً على قرية دوڕاجي الواقعة إلى الجنوب الشرقي من قرية عومربل. وفي تلك المنطقة، سلّم السكان أنفسهم للقوات العسكرية وتمّ نقلهم مباشرةً إلى معسكرٍ خاصٍ بالقرب من الفرقة 21 مشاة أُعدّ مسبقاً لهذا الغرض.
في 13 نيسان وصلت القوات إلى قرية كولەجو، ففرّ بعض السكان ومعهم ما استطاعوا من متاعٍ قليلٍ نحو مجمع سمود، غير أنّهم بسبب إغلاق الطريق الوحيد بين كفري وكلار اضطروا للجوء إلى قرية ملەسورە. ومع وصول الجيش، تمّ تسوية القرية بالأرض باستخدام الجرافات (البلدوزرات).
وفي 17 نيسان، تعرّضت قرية كونەكۆترێ للنهب والدمار الكامل، وهُدمت المنازل على رؤوس أصحابها، وتمّ اعتقال وترحيل السكان.
وخلال يومي 18 و19 نيسان، أنهت قوات كفري وكلار مهامها العسكرية بعد عشرة أيام من القتال، حيث كانت معظم قرى سنگاو وجنوب گرميان قد دُمّرت بالكامل.
وقد أبدت قوات البيشمركة مقاومةً شرسة، لكنّها لم تستطع الصمود بسبب تفوق الجيش العراقي عدداً وعدّةً، وامتلاكه ترسانة ضخمة من المدفعية والدبابات والأسلحة الثقيلة.إضافةً إلى الدعم الجوي المكثّف.
بعد هذه العمليات، أطلق النظام البعثي العراقي حملةً واسعةً من الدعاية والإعلام الموجَّه، هدفها تبرير ما ارتُكب من جرائم، حيث تمّ تصوير المعتقلين والمُرحّلين قسراً وعرض صورهم وأفلامهم على شاشات التلفزيون لأسابيع متتالية، في محاولةٍ لتصويرهم على أنهم “خونة، عملاء، مجرمون، أو أسرى إيرانيون”.
غير أنّ مجلس الأمن القومي العراقي أرسل لاحقاً مذكرة سرّية وخاصة رقم (397) بتاريخ 2 أيار 1988 إلى وزارة الداخلية، وجّه فيها انتقاداتٍ إلى لجنة الشمال التابعة لمجلس قيادة الثورة وإلى مديرية الأمن العامة، محذّراً من أنّ عرض تلك الصور والفيديوهات التي تُظهر النساء والأطفال والشيوخ قد يؤدي إلى نتائج عكسية ويُثير غضب الشارع العراقي ويؤدّي إلى احتجاجاتٍ شعبية ضد الحكومة.
في المقابل، قامت القيادة الكردستانية وشخصيات سياسية كردية عديدة بحملةٍ دبلوماسيةٍ واسعةٍ لتوثيق الجرائم والانتهاكات وإرسالها إلى الأمم المتحدة، ضمن مذكراتٍ وتقارير رسمية تضمنت قائمةً بالعمليات العسكرية التي نفّذها الجيش العراقي ضد الشعب الكردي بين 15 نيسان 1987 وحتى نيسان 1988، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيميائية. وقد أُرفقت بهذه المذكرات وثائق رسمية صادرة عن مجلس قيادة الثورة العراقي تتعلق بالمناطق المحظورة في كردستان.
وفي 24 شباط (فبراير) 1989 أرسلت القيادة الكردستانية مذكرةً جديدةً إلى لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة تضمنت قائمةً بأسماء ضحايا الأنفال من محافظتي كركوك والسليمانية، ووثّقت الجرائم التي وقعت خلال شهري آذار ونيسان 1988.
وجاء في التقرير أنّ عدد القرى والبلدات المدمّرة بلغ نحو 728 قرية وبلدة، وتمّ تهجير أكثر من 40 ألف عائلة، منهم 16 ألف شخصٍ في سجون النظام، و7407 امرأة من مناطق زنگنة، جباري وسنگاو في سجن دوبز، و5600 امرأة من مناطق مختلفة في ناحية يايچي، و4560 طفلاً اعتُقلوا مع أمهاتهم ومات كثيرٌ منهم أثناء الاحتجاز.
كما كشف التقرير أنّ أطفالاً تتراوح أعمارهم بين ستة أشهر وسنة واحدة تمّ بيع كلٍّ منهم مقابل 50 ديناراً عراقياً، وأنّ 7640 رجلاً أُعدموا أو فُقدوا، بينما تعرّضت النساء لانتهاكاتٍ جسيمةٍ وللمعاملة المهينة، في انتهاكٍ صارخٍ لكلّ المواثيق والأعراف الإنسانية.



Leave feedback about this