الأنفال الثامن
الأنفال الثامن في بادينان، من ٢٥ آب حتى ٦ أيلول ١٩٨٨، في تقرير ميداني عن الأنفال الختامي الوارد في القرارات والوثائق الخاصة بنظام البعث [1].
إنّ انتهاء الحرب الإيرانية-العراقية شكّل دعماً كبيراً للدولة العراقية، إذ رفع من قدرات الجيش العراقي إلى درجةٍ عالية، مما دفع القيادة البعثية إلى الإسراع في تنفيذ المراحل الأخيرة من عمليات الأنفال وإنهائها. قاد العمليات كلٌّ من اللواء الركن سلطان هاشم (قائد الفيلق الأول)، واللواء الركن يونس محمد الزُرْب (قائد الفيلق الخامس)، واللواء الركن كامل ساجد (قائد الفيلق الثاني)، وتحت إشرافٍ مباشر من الفريق الأول الركن عدنان خيرالله وزير الدفاع، وعلي حسن المجيد رئيس مكتب شمال حزب البعث، والفريق الركن نزار عبدالكريم الخزرجي نائب رئيس الأركان للعمليات، والفريق حسين رشيد محمد التكريتي.
في تقريرٍ سريٍّ بعنوان «مراجعة عمليات الأنفال الختامية» برقم (ح٢/٢٤٢٢) بتاريخ ٢٥ كانون الأول ١٩٨٨، أعدَّه اللواء الركن يونس محمد الزرب قائد الفيلق الخامس، وأرسله إلى القيادة العامة للقوات المسلحة، جرى تفصيلُ المراحل السابقة (الأنفال الخامسة والسادسة والسابعة) مع تحديدٍ دقيقٍ لمواقع قيادات الفيالق وقوات الدفاع الوطني.
يضمّ التقرير أكثر من ٦١ صفحة، ويُعدّ من أهم الوثائق الرسمية التي استُخدمت لاحقاً كدليلٍ رئيسي على الطابع الإبادي لعمليات الأنفال أمام المحكمة الجنائية العراقية العليا، لأنه يُظهر تزامن وقف الحرب مع استمرار المجازر الجماعية ضدّ شعب كردستان.
وجاء في أحد أقسامه: «إنّ علي حسن المجيد عقد عدة اجتماعاتٍ مهمة قبل بدء العمليات الختامية، وذلك لتعويض الإخفاقات في المراحل الخامسة والسادسة والسابعة».
في ٧ آب ١٩٨٨ عقد علي حسن المجيد اجتماعاً في كركوك مع رئيس مكتب التنسيق الشمالي ونائب القائد العام ومسؤولي الجيش، لوضع الخطط الاقتصادية والعسكرية لتنفيذ عمليات الأنفال في منطقة بادينان، كما ورد في الوثيقة السرّية رقم (١٠٢٤) الصادرة في ٨ آب ١٩٨٨ عن القيادة العامة.
وفي اجتماع ١٤ آب ١٩٨٨ بحضور نائب القائد العام وقادة القوات البرية والجوية، تقرّر تموضع الفيلق الأول في منطقة باليسان وسماقولي، والفيلق الخامس في محور زيواكان – زاخو، استعداداً لبدء الأنفال الثامنة، حسب الوثيقة السرّية رقم (١٠٧٦) في ١٦ آب ١٩٨٨.
وفي ٢١ آب صدر الأمر باستخدام الأسلحة الكيمياوية بموجب الوثيقة رقم (١١٢٢)، ثم جرى تحديد موعد الهجوم في اجتماع ٢٦ آب بمقر الفيلق الأول في كركوك ليكون يوم ٢٨ آب، كما ورد في الوثيقة رقم (١١٧٥) بتاريخ ٢٧ آب ١٩٨٨.
وأشار التقرير إلى أنّ «منطقة بادينان منطقة جبلية شمالية تُعدّ حصناً لحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني»، وأنه بأمرٍ مباشر من صدام حسين مُنح السكان مهلةً للعودة والانضمام إلى «الصف الوطني»، ومن سلّم نفسه من المقاتلين سيُعفى من العقوبة.
كما أُشير في مذكرةٍ صادرة عن أمن السليمانية بتاريخ ١١ تموز ١٩٨٨ إلى السياسة الجديدة للنظام بخصوص «الاستسلام الطوعي للمقاتلين الأكراد»، حيث وجّه علي حسن المجيد عدداً من النقاط والتعليمات الخاصة بهذا الأمر.
- يُعفى كلّ مقاتلٍ كرديّ (پيشمرگ) يُسلّم نفسه وسلاحه ويعود إلى المناطق التي لم تشملها بعدُ عمليات الأنفال من جميع الجرائم السابقة، بما في ذلك التخلّف عن الخدمة العسكرية.
- يُعفى المقاتلون العائدون بلا سلاح إلى المناطق غير المشمولة بالأنفال من تهم التعاون مع المتمرّدين أو التخلّي عن الواجب العسكري.
- يُحظر على أيّ شخصٍ التسجيل في وحدات «الدفاع الوطني» دون إذنٍ رسميّ.
في الواقع، جميع الوعود التي قدّمها النظام منذ بداية عمليات الأنفال حول “الاستسلام الطوعي” لم تُنفَّذ، ولم يُحترم أيّ التزامٍ بالعفو. كثيرٌ من المواطنين الذين صدّقوا هذه الوعود وسلّموا أنفسهم واجهوا مصيراً مأساوياً؛ إذ اختفوا قسراً بعد اعتقالهم.
ووفقاً للوثائق البعثية، امتدّ نطاق عمليات أنفال بادينان من الغرب (زاخو) حتى آميدي، ومن الجنوب والشرق ليشمل شيخان وعقرة، ولا سيّما (كاني ماسي، بيكوفا، باتوفا، ديرالوك، سرسنگ، زاخو، أتروش، شيروان مازن، عقرة ودينارته).
خلال هذه المرحلة، نزح الآلاف من سكان بادينان خوفاً من القصف الكيمياوي والاختفاء القسري.
إلى جانب الفيلق الخامس المتمركز في أربيل، شاركت الفيالق (١، ٢، ٣، ٤، ٥، ٦، ٧)، بمجموع ١٨ إلى ٢٠ لواءً قتالياً، فضلاً عن الفرق (٣٨، ٤٢، ٢٩، ٣٥، ٤١، ٤٥) ووحدة الدفاع الوطني الخامسة. كما نُقلت الفيالق الثالث والسادس والسابع من جنوب العراق للمشاركة في العمليات.
كانت هذه المناطق خاضعة لسيطرة قوات البيشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني (KDP)، وقد جعلت الطبيعة الجبلية للمنطقة الدعم اللوجستي أمراً معقّداً. غير أنّ شدّة الهجمات ضدّ KDP في بادينان كانت أعنف وأكثر مباشرةً من العمليات السابقة ضدّ الاتحاد الوطني الكردستاني (PUK)، بسبب فراغ الجيش بعد انتهاء الحرب مع إيران.
وخلال هذه المرحلة، اعتُقل العديد من السكّان الآشوريين والمسيحيين الكاثوليك والإيزيديين واختفوا قسراً، تماماً مثل الأكراد المسلمين. أُحرقت القرى الآشورية مثل بلاو في ناحية برواري بالا، وميزي في سرسنگ، وكوسه في دوسكي، ودُمّرت مع القرى الكردية المجاورة بلا تمييز.
ومن تمكّن من الفرار، لجأ إلى الجبال، ووصل المئات إلى تركيا، حيث بقوا هناك حتى العفو العام في ٦ أيلول.
القصف الكيمياوي في المرحلة الختامية للأنفال في بادينان
تُعدّ هذه من أبشع جرائم تاريخ الدولة العراقية في عهد النظام البعثي، إذ استُخدمت الأسلحة الكيمياوية المحظورة بموجب بروتوكول جنيف لعام ١٩٢٥ على نطاقٍ واسع.
ووفقاً لوثائق النظام، فقد استُهدفت بهذه الأسلحة القرى والمناطق التالية:
- 24 آب 1988 – جبل گارا و قرية زيوەشكان في محافظة دهوك تعرضتا لقصف كيميائي واستشهد عشرة من البيشمركة.
- 25 آب 1988 – بدأت المرحلة الثامنة والنهائية من حملة الأنفال وتم قصف مناطق آميدي وبرواري بالا بالأسلحة الكيميائية، بما في ذلك القرى ورميله، بابيري، گەرەگو، هيسي، إكمالا، آسه، بازە، ميسكا، ميرگاچيا، كاني بلاڤ، تلاكروي وخرابيا. استشهد خمسة أشخاص وأصيب خمسة وسبعون.
- 25 آب 1988 – قصفت القرى كيري، بليتيه، باوكا، بركڤره، گرکه، كوفلينك، ردينه، سارتكه، زيوكه، شيروانه، بليجانه، بانه وتلاكرد بالغازات السامة، مما أدى إلى استشهاد شخصين وإصابة أربعين.
- 25 آب 1988 – تعرضت قرى گلناسكه، كانيا، باسكه، آفوكه، بيمنانش، بريسه، جزگيرا، چمچالي، چمشرويسه، نزدوره، بره، چم ربتكي، ميروكي وبلنباس لهجوم كيميائي.
- 25 آب 1988 – في قرى برجيني، زرهوا، درگلا شيخه، زينافا ودبانكيلة استشهد 14 شخصًا وأصيب 15 آخرون.
- 25 آب 1988 – في ناحية شيخان قُصفت قرى سپينداريا، سوار، آلوك وسيدرا بالغازات السامة.
- 25 آب 1988 – قُصفت قرى ميرگتوي، گلي زيوكه، شان، گوهرز، سري كوكه في منطقة نيروە وقرية تويكا في ناحية زاخو بالأسلحة الكيميائية.
- 25 آب 1988 – قرية گوێزه والقرى في وسط جبل گارا تعرضت لهجوم كيميائي.
- 25 آب 1988 – ناحية كاني ماسي وقرية بالوكا تعرضتا للقصف الكيميائي.
- 25 آب 1988 – قرى سپير، سينيه، نيروە، خرهگول، كوجرسكه، خراب، زيوە، برچي، كاني، دويره، درگني، سيري، سگره، سركلي، فيرستك وچيارهشك تعرضت للقصف الكيميائي وسقط عدد كبير من الجرحى.
- 27 آب 1988 – في منطقة مزوري بالا بمحافظة أربيل وقع قصف كيميائي أدى إلى سقوط قتلى وجرحى.
- 28 آب 1988 – في مناطق نيروە وريه قُصفت قرى شيڤييه، هيتوت، كانيا پينك، باشه، سرني، گارا، گرو، باوانكه، زيوە سري وگلي كوتكه ولم يُعرف عدد الضحايا.
- 29 آب 1988 – في منطقة برواري بالا تعرضت قريتا بازە وگلي بازە لهجوم كيميائي، واستشهد 2980 شخصًا وأصيب المئات.
- 29 آب 1988 – في قرية بانكه استشهد حوالي ألف شخص وأصيب العشرات.
قبل بدء الهجمات على منطقة بادينان، حشد الجيش العراقي ونظام البعث جميع الفرق والوحدات العسكرية قرب مدينة دهوك، وقصف عدة مواقع بشكل مكثف.
ومن بين هذه المواقع، قرية سبينداريا الواقعة عند سفح جبل گاره، حيث كان أحد مقاتلي البيشمركة قد استشهد هناك سابقًا.
في مساء ٢٤ آب ١٩٨٨، تعرّض مقر قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني (KDP) في زێوشكان لأول هجوم كيمياوي، مما أسفر عن استشهاد عشرة من مقاتلي البيشمركة.
وفي صباح اليوم التالي، ٢٥ آب، شنت الطائرات الحربية العراقية عدة غارات متزامنة على المناطق الكردية. وأفاد شاهد من المنطقة أنه في الساعة ٢ فجرًا من يوم ٢٦ آب ١٩٨٨، قامت اثنتا عشرة طائرة بالهجوم في تشكيلٍ واحد على القرى المستهدفة.
كان الهدف الرئيسي للنظام هو نشر الرعب والخوف بين السكان المدنيين. وقد أعاد هذا الهجوم إلى الأذهان استخدام النظام للأسلحة الكيمياوية في حلبجة، قرهداغ، گوپتپه، عسکر، سيوسنان، شيخ وسن وبالياسان، مما دفع آلاف العوائل إلى الفرار، حتى أن الطرق أُغلقت من شدة الازدحام.
في هذه الغارات، تعرّضت قرية برجيني في ناحية زاويته يوم ٢٥ آب ١٩٨٨ لهجوم كيمياوي شنّته ثماني طائرات. وذكر الشهود أن القنابل انفجرت في الهواء بدخانٍ أبيض وأسود، ثم تحوّل إلى لونٍ أصفر كثيف، وكانت رائحة الغاز في البداية رائحة التفاح الحلو، ثم تسببت بحرقة في الفم والعينين والجلد وصعوبة في التنفس.
كما تعرّضت قريتا تلاكرد وسبينداروكة وقربهما بركڤري للقصف الكيمياوي، ما أسفر عن استشهاد ١٤ مقاتلًا وعددٍ من المدنيين.
وبشكلٍ عام، تم قصف نحو ١٠٠ قرية ومنطقة بالأسلحة الكيمياوية خلال هذه المرحلة.
وأشار الخبراء إلى أن النظام استخدم غاز الخردل إضافةً إلى غاز الأعصاب GB (السارين) في تلك الهجمات.
هرب سكان تلك المناطق باتجاه بيگوفا وكانيا ماسي. حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل من يوم ٢٦ آب ١٩٨٨، تمكن قسم من الأهالي من العبور، لكن بعد ذلك سيطر الجيش العراقي على المنطقة وأغلق طرق الهروب.
خاضت قوات البيشمركة سلسلة من المعارك وحاولت تفجير الجسور وقطع الطرق لإيقاف تقدم الجيش، إلا أن القصف الجوي الكثيف أجبرهم على الانسحاب.
وفي نهاية يوم ٢٦ آب انتهت المعارك، ولكن مع صباح ٢٨ آب كانت منطقة بادينان قد أصبحت بالكامل تحت سيطرة النظام.
ونتج عن ذلك عشرات الآلاف من المدنيين النازحين، إذ لجأ البعض إلى تركيا، فيما اعتُقل آخرون في قراهم أو أُجبروا لاحقًا على التصفية والاختفاء القسري.
وفي ٢٦ آب، عُلِق آلاف الأشخاص على الحدود التركية، ورفضت السلطات التركية في البداية السماح لهم بالدخول، لكنها اضطرت لاحقًا إلى فتح الحدود.
دخل ما يقارب ٦٥ إلى ٨٠ ألف شخص إلى الأراضي التركية. وخلال ذلك وقعت اشتباكات بين اللاجئين الكرد وجنود الجندرمة الأتراك خوفًا من أن تعيد تركيا تسليمهم للنظام العراقي.
لاحقًا، تم إسكانهم في مخيمات خاصة أنشئت لهم، وقدّم أهالي كردستان الشمالية (باكور) مساعدات كبيرة لهؤلاء اللاجئين، وشاركوا في تخفيف معاناتهم وآلامهم. [5]
المجزرة الجماعية في قرية كورفيل
الأشخاص الذين سلّموا أنفسهم أو اعتُقلوا على يد الجيش العراقي، كان مصير أغلبهم الاختفاء القسري.
في قرية كورفيل بمنطقة دوسكي، قام ضابط عراقي بإعدام ٣٥ شخصًا من النساء والأطفال والرجال رمياً بالرصاص.
أحد ضباط الجيش العراقي السابقين برتبة عقيد قال لمنظمة MEW: «تلقينا أوامر بقتل كل من يُشتبه بأنه بيشمركة، حتى من يسلم نفسه طوعًا».
وتمّ إعدام جميع الرجال بين ١٥ و٧٠ عامًا وفق القرار رقم ٤٠٠٨ الصادر عن علي حسن المجيد.
وهذا القرار دليل قاطع على سياسة الإبادة الجماعية التي مارسها النظام البعثي ضد الشعب الكردي.
المجزرة في قرية كوريمی
في 28 آب/أغسطس 1988، وخلال المرحلة النهائية من حملة الأنفال في منطقة بادينان، وقعت مجزرة قرية كوريمه في محافظة دهوك، في كوردستان الجنوبية. بعد أن أُجبر أهالي القرية على الوقوع في قبضة جيش البعث العراقي المجرم وفُصل الرجال عن النساء والأطفال، أُعدم 33 رجلاً وفتياناً تراوحت أعمارهم بين 13 و43 عاماً. وبحسب شهادات الشهود، فإن ضابطاً في الجيش، وبعد تلقيه أمراً عبر جهاز اللاسلكي، فتح النار عليهم فوراً ونفذ عملية الإعدام في الحال، ثم وُضع الضحايا في مقبرة جماعية. ومن بين هؤلاء الـ33 ضحية، تمكن ستة أشخاص من النجاة بعد مغادرة الجيش، إذ اختبأوا تحت جثث القتلى ورغم إصاباتهم تمكنوا من الفرار. وأسماءهم مذكورة أدناه.:
1. أبابكر علي سعيد
2. عبد القهار خليل
3. عبد الكريم نايف حسن
4. هاشم محمد رشيد
5. صدقي عبد القادر فتاح
6. فتاح عبد القادر فتاح
إلا أن أحدهم، فتاح عبد القادر فتاح، وبعد هروبه أُعيد اعتقاله خلال عمليات الأنفال. وبحسب شهادات الناجين، فقد قُتل في قلعة نزاركه ـ التي كانت مكان احتجاز ضحايا الأنفال ـ على يد البعثيين بواسطة كتلة حجرية.
كان الناجون من مجزرة كوريمي من بين الثلاثة عشر الذين تمكنوا من الإفلات من خنادق الإعدامات الجماعية للأنفال، وعُرفوا فيما بعد بـ “الناجين من المقابر الجماعية”.
تُعدّ جريمة كوريمي واحدة من العديد من مآسي أنفال بهدينان حيث جرى الإعدام الميداني للمعتقلين بعد القبض عليهم مباشرة.
مجازر في قرى أخرى
في قرية همزه، قُتل ٤٨ شخصًا.
في كربيت علي، ٢١ شخصًا.
في كربيت تيمور، ١٨ شخصًا.
في ساركێ، ٩٣ رجلًا.
في ورخَل، ٨٣ رجلًا.
في يكماله دوسكي، ٧٤ شخصًا.
وفي گويزه، ٩٣ شخصًا.
كلهم أُعدموا خلال حملة أنفال بادينان.
قرية ميرگتوی
في قرية ميرگتوي (ميرگتي)، بعد اعتقال السكان، فُصل الرجال عن النساء، ثم أُعدم حوالي ١٠٠ رجل تجاوزوا الخامسة عشرة من العمر رمياً بالرصاص.
قلعة نزاركه – دهوك
تقع هذه القلعة العسكرية في شرق مدينة دهوك، وهي بناء خرساني صلب شُيّد عام ١٩٧٠ على الطراز السوفييتي المشابه لقلعة نُقرة السلمان.
بعد بدء المرحلة الأخيرة من حملة الأنفال في بادينان، كان كل من يُعتقل يُنقل مباشرة إلى هذه القلعة. أما عدد قليل من الرجال من جنوب بادينان فقد نُقلوا إلى الموصل، ولم يُعرف عنهم شيء حتى اليوم.
في قلعة نزاركه، كان المعتقلون يُفصلون عن بعضهم، خصوصًا الرجال في سن الخدمة العسكرية، وتُؤخذ منهم اعترافات قسرية يُعتقد أنها سُجّلت على أشرطة فيديو.
اشتهرت القلعة بممارساتها الوحشية من التعذيب الجسدي والنفسي. كان بعض السجناء يُقتلون بكتل إسمنتية، وآخرون يُسحبون خلف السيارات أو يُحرقون داخل البراميل. وكان بعضهم يُعذَّب أمام عائلاتهم لإذلالهم وكسر إرادتهم.
قال أحد شيوخ بادينان:
«رأيت بعيني الضباط يقتلون شابًا ببلوك إسمنتي. بكيت ودعوت الله أن ينجّينا جميعًا.»
كما روت امرأة من دهوك تُدعى أمينة خان قائلة:
«عندما اعتقلونا، وضعونا في عربة عسكرية. اقترب أحد الجنود وبصق عليّ وضربني على أذني حتى سقطت على الأرض. حاول الناس سحبي، لكنهم جميعًا ركلوني. تمزّق ثوبي وامتلأ جسدي بالكدمات، وحتى الآن أذناي تؤلمانني كلما تذكّرت ذلك اليوم.»
كان وضع الشباب في القلعة الأسوأ بين الجميع. كل من كان يُنقل إلى القلعة، كان يُستقبل بالضرب والركل. وإذا كان يرتدي ملابس البيشمركة، كان يُعلَّق مباشرة على آلة التعذيب (الفلّاقة).
قال أحد الشهود من بادينان:
«في يوم من الأيام، رأيت الجنود يعذبون مجموعة من اثني عشر شابًا يرتدون زي البيشمركة. كان الضباط يسبّونهم ويصرخون: “ألا تشعرون بالعار لأنكم بيشمركة؟ يا جماعة الكلاب!” ثم رأيت جثثهم المضرجة بالدم تُسحب إلى الخارج. قال أحد الحراس: هؤلاء أُسروا في جبال متين.»
في قلعة نزاركه، كان عدد كبير من الآشوريين والإيزيديين معتقلين أيضًا، وكانوا يُفصلون عن بقية السجناء، ولا يزال مصير معظمهم مجهولًا حتى اليوم.
كان الرجال محتجزين في الطابق السفلي، والنساء في الطابق العلوي. وبعد أيام قليلة، فُصلت النساء والأطفال عن الرجال ونُقلوا إلى سجن السلامية في الموصل.
وقالت أمينة خان في شهادتها:
«كانت قلعة نزاركه قذرة جدًا، كأننا نعيش داخل مياه آسنة. كل امرأة كانت تطلب رؤية زوجها كانت تُضرب بالفلقة والركل حتى تقع على الأرض. كانوا يهينوننا بلا رحمة. وبعد أيام قليلة، نُقلنا معصوبات العيون إلى سجن السلامية، ومنذ ذلك اليوم لم نسمع شيئًا عن رجالنا.»
سجن النساء في السلامية – الموصل
كان سجن السلامية مخصّصًا للنساء، وهو في الأصل معسكر عسكري يقع في بلدة صغيرة تُسمّى السلامية، على بعد عدّة أميال جنوب الموصل وعلى الضفة الشرقية لنهر دجلة.
بعد اعتقال النساء في حملة أنفال بادينان، تمّ نقلهنّ من قلعة نزاركه إلى هذا السجن.
جميعهنّ من أهالي بادينان. كان طعامهنّ اليومي خبزًا يابسًا وماءً ساخنًا من الصهاريج، وكنّ يَنمن على أرضية إسمنتية باردة.
ونتيجة غياب الدواء والعناية، تدهورت حالتهنّ الصحيّة والنفسيّة، وانتشرت الوفيات بينهنّ. وكان وضع هذا السجن لا يقلّ سوءًا عن سجني دوبز ونُقرة السلمان.
تشير التقارير إلى أن عدد السجينات في سجن السلامية بالموصل بلغ نحو ١٢ ألف امرأة وطفل، معظمهنّ من المعتقلات في المرحلة الأخيرة من الأنفال، وبينهنّ نساء كرديات وآشوريات ومسيحيات.
إحدى السجينات تروي قائلة:
«كان الرجال يُربطون بالأصفاد وتُعصب أعينهم ثم يُنقلون في شاحنات مغلقة بلا نوافذ. وبعد فترة قصيرة سمعنا أصوات إطلاق نار، فعرفنا أنهم أُعدموا جميعًا.»
وكانت معاناة النساء الكبرى الجهل بمصير أزواجهنّ وآبائهنّ.
ورغم أن السجن مخصّص للنساء، إلا أنّه وُجد قسم يُعتقد أنه كان يُستخدم لاحتجاز الرجال أيضًا.
زُعم أن إحدى النساء من ناحية “گولي” عرفت من أحد الحراس أنّ زوجها وأخاها كانا في القسم المقابل. كما قالت أخرى من منطقة “سرسنگ” إنها رأت رجالًا معصوبي الأعين وأيديهم موثوقة خلف ظهورهم، ثم نُقلوا في شاحنات مغلقة لا نوافذ لها إلا فتحة صغيرة في الخلف.
وفقًا للوثائق الرسمية لحملة الأنفال النهائية، فيما يخص المعتقلين، ورد ما يلي:
عدد الذين سلّموا أنفسهم – 803 أشخاص،
عدد الذين أُلقِيَ القبض عليهم – 771 شخصًا.
ويُذكر في الملاحظات أن هذه الاعتقالات كانت في الغالب بحجة الانتماء إلى صفوف البيشمركة أو دعم النشاط السياسي الكردي، وأن أوامر الاعتقال صدرت من قيادة حزب البعث مباشرة.
أما بخصوص المدنيين في المنطقة، فقد سُجِّلت الأعداد على النحو التالي:
1489 رجلًا، 3368 امرأة، و6469 طفلًا، جميعهم من ضحايا الأنفال.
كما أُشير إلى أن 187 شخصًا من النساء والرجال والأطفال لم يُفصلوا بعد في الإحصاءات.
وبحسب الصفحة 56 من تقرير المسح الميداني للأنفال النهائية، بلغ مجموع المعتقلين في هذه المرحلة 13535 شخصًا على النحو الآتي:
- 803 من الذين أُلقِيَ القبض عليهم
- 737 من الذين سلّموا أنفسهم
- 1489 رجلًا
- 3373 امرأة
- 6964 طفلًا
وجاء في الملاحظة: 187 امرأة ورجلًا وطفلًا لم تُفصَل أسماؤهم حتى وقت إعداد التقرير.
الإحصاءات النهائية لضحايا الأنفال في بادينان
وفقًا للوثائق الرسمية، بلغ عدد ضحايا الأنفال في مرحلتها الأخيرة ١٤٬٤١٥ شخصًا، من الذين اعتُقلوا أو اختفوا قسرًا، بالإضافة إلى من قُتلوا أثناء الاعتقال أو الإعدام الميداني.
كما يجب إضافة ٤٬٠١٥ شهيدًا من ضحايا الأسلحة الكيميائية.
فقد تسببت هذه المرحلة في مقتل المئات بالغازات السامة، وتشريد الآلاف إلى تركيا، حيث لقي كثيرون حتفهم في الطرق الجبلية الوعرة.
أكثر من ٦٦٣ قرية – سواء كانت كردية مسلمة أو مسيحية أو آشورية أو إيزيدية – دُمّرت بالكامل، بما في ذلك المساجد والكنائس والمعابد.
كما تم قصف أكثر من ١٠٠ منطقة وقرية بالأسلحة الكيميائية.
في ٦ أيلول ١٩٨٨ أُعلن رسميًا انتهاء ما سُمّي بـ«الأنفال النهائية»، لكن حملة الإبادة ضد الأكراد استمرت حتى بعد إعلان «العفو العام».
ورغم إطلاق سراح بعض المعتقلين، إلا أنهم مُنعوا من العودة إلى قراهم، وتم نقلهم إلى مخيمات زورمل، جيجنيكان، گردچال، وبرهوشتر في محافظة أربيل.
مخيمات جێژنیکان و گردەچاڵ و بەرهوشتر قرب أربيل
بعد إعلان العفو العام من قبل مجلس قيادة الانتفاضة الكردية، واجه المعتقلون خلال حملة الأنفال النهائية مصيراً صعباً وغامضاً للغاية. نُقل الآلاف منهم إلى جنوب أربيل وأُسكنوا في مخيمات النزوح جێژنیکان، گردەچاڵ، وبەرهوشتر.
بعد أيام قليلة من إعلان العفو، أُلقي القبض مجدداً على عدد كبير من الأشخاص في منطقة خابور عند معبر إبراهيم خليل الحدودي من قبل الجيش العراقي. وزّع ضباط الاستخبارات الذين أشرفوا على عودتهم أوراقاً صغيرة على الأكراد المسلمين كُتب عليها «يُرسلون إلى أربيل» وأُرسلوا إلى مخيمات جێژنیکان، گردەچاڵ، وبەرهوشتر. لكن طُلب من المسيحيين والإيزيديين أن يعرّفوا بأنفسهم بشكل منفصل، ثم أُمروا بالاصطفاف بعيداً عن الآخرين.
أبلغ الضباط بعد ذلك بأن الرجال سيُعادون إلى وحداتهم العسكرية إذا كانوا فارّين من الخدمة، بينما تُرسل النساء والأطفال إلى منازلهم. وبحسب شهادة أحد الشهود، بعد عودتهم واستسلامهم، نُقلوا إلى دهوك. ويذكر الشاهد أنه رأى مجموعة كبيرة من الأكراد، ومعظمهم من الإيزيديين، يُحتجزون في الطابق السفلي الثاني من القلعة، وقد فُصلوا عن السجناء الأكراد المسلمين.
مصير المسيحيين والإيزيديين بعد أنفال بادينان
مع انتشار الأخبار عن الاعتقالات، بدأ الأهالي من دهوك بالبحث اليومي عن ذويهم، لكن دون جدوى. فقد قيل لهم إن جميع الرجال المسيحيين والإيزيديين نُقلوا في اليوم السابق بشاحنات مغلقة، وكانت تلك آخر مرة يُرَون فيها أحياء.
أمّا النساء والأطفال والشيوخ، فقد نُقلوا بعد ليلة واحدة في دهوك إلى مخيمات بحركة وجيجنيكان قرب أربيل.
بعد أسبوع، أُذيع نداء عبر مكبّرات الصوت في المخيم يدعو الجميع إلى مراجعة مركز الشرطة لتسجيل أسمائهم، خاصة من المسيحيين والإيزيديين والكلدان.
بعد أيام، وصلت سيارات لاندكروزر تابعة للاستخبارات العراقية، وطمأن الضباط الناس قائلين: «لا خوف عليكم، سنعيدكم إلى بيوتكم».
لكن بعد أن سلّم العشرات أنفسهم، اختفوا إلى الأبد.
وبحسب الشهادات، تم اعتقال ستة وعشرين شخصًا من الآشوريين من قرية كوسە على يد ضابط وجنود من الجيش العراقي، ولم يُعرف مصيرهم بعد ذلك.
بقي الناجون من المسيحيين والإيزيديين في المخيمات حتى صيف 1990، دون أن يُسمح لهم بالعودة إلى ديارهم، وحتى في المناطق المخصّصة سابقًا لهم مثل مسيورك وخانكێ، لم يُعثر على أي أثر لهم.
أوضاع الناجين في مخيمات أربيل
بعد إعلان “العفو العام”، أُسكن أكثر من خمسين ألف شخص من الناجين في مخيمات زورمل، جيجنيكان، گردچال، وبرهوشتر قرب أربيل.
كانت الحياة في تلك المخيمات قاسية للغاية، بلا طعام كافٍ ولا مأوى، ما أدى إلى وفاة العشرات.
ورغم التضييق الأمني، وقف سكان أربيل إلى جانبهم وقدّموا لهم المساعدة والطعام والبطانيات.
خلاصة
إن تقرير التحقيق في “الأنفال النهائية” الذي يتألف من 61 صفحة يُعدّ من أهم الوثائق القانونية التي أثبتت جريمة الإبادة الجماعية في المحكمة العليا العراقية.
فقد بيّن أن النظام البعثي، بعد وقف الحرب مع إيران (القرار 598)، واصل حملته لإبادة الشعب الكردي.
وهكذا انتهت العمليات رسميًا في 6 أيلول 1988، لكن سياسة التدمير والقتل الجماعي للأكراد استمرت.
وبحسب التقديرات، بلغ عدد المفقودين أكثر من 182,000 كردي، وتدمّر النسيج الاجتماعي والاقتصادي لكردستان بالكامل.



Leave feedback about this