الأنفال الخامسة والسادسة والسابعة
بعد أسبوعٍ واحدٍ فقط من انتهاء المرحلة الرابعة من عمليات الأنفال، التي كان النظام البعثي قد احتل خلالها مساحاتٍ واسعة من أراضي كردستان ودمّر القرى وهجّر سكانها قسراً، شنّ النظام هجوماً جديداً استهدف المناطق الجبلية الوعرة في شقلاوة ورواندز.
قاد العمليات العميد الركن بارق عبد الله الحاج حنطة قائد قوات حماية النفط والقوات الخاصة، بمعاونة كلٍّ من العقيد الركن فؤاد حسين علي والمقدّم هاشم كامل محمود، وبإشرافٍ مباشر من اللواء الركن يونس محمد الزَرب قائد الفيلق الخامس ونائبيه، وبمشاركة الفيلق الأول بقيادة الفريق الركن سلطان هاشم.
وقد ورد في وثيقةٍ رسمية صادرة عن وزارة الدفاع، مكتب رئيس أركان الجيش، تحمل الرقم 30/1545 بتاريخ 22/5/1988، وموقّعة من قبل اللواء الركن نبيل عبد القادر حسين، ما نصّه:
“تم تنفيذ الضرب بالأسلحة الكيميائية في يوم 15/5/1988 على مواقع التمرّد ضمن قاطع الفيلق الخامس”.
في منتصف أيار 1988، وصلت حملات الأنفال إلى منطقة باليسان والقرى المحيطة بها، حيث شنّ الجيش العراقي قصفاً كيميائياً مكثفاً على القرى، منها وري، نازنين، كاموسك، أسبيندار، علياوا، سماقولي، بونيه، فكانت النتائج كارثية. ففي قرية وري وحدها قُتل 36 شخصاً، وتحدث أحد الناجين قائلاً:
“حين ذهبنا لمساعدة أهالي وری، وجدنا أربعة أو خمسة أشخاصٍ على أطراف القرية قد سقطوا في الجدول وهم أموات، كما كانت وجبات الطعام لا تزال فوق النيران داخل البيوت، بينما كانت الحيوانات نافقةً في كلّ مكان.”
وشاهدت امرأة من أهالي المنطقة الطائرات وهي تلقي قنابل كيميائية فوق القرية، وقالت إنّ صوت القنابل كان يشبه صوت سيارةٍ تمرّ بسرعةٍ كبيرة قبل أن تنفجر فجأةً.
في 23 أيار، واصلت الطائرات قصفها بالأسلحة الكيميائية على مناطق باليِسان، هيران والقرى المجاورة، مما أدى إلى مقتل عددٍ من مقاتلي البيشمركة الذين كانوا في تلك الوديان.
في 20 أيار بدأ الجيش العراقي عدة هجماتٍ بريةٍ جديدة:
- المحور الأول: من جهة گرەوان باتجاه هەندرين وكارۆخ.
- المحور الثاني: من هەڵەموند نحو وەرتی، زینێ، سەري أحمد، دەرەبي، جاوەل، دەرە وكەلیتە، حيث تعرضت قرية وەرتی مساء يوم 23 أيار لقصفٍ كيميائي مباشر.
- المحور الثالث: من جهة چاوەو وبنی هەريِر وخەليفان على شكل هجومٍ حلزوني.
أسفرت هذه العمليات عن تشريد أكثر من 720 عائلةٍ كردية وتدمير ممتلكاتهم بالكامل. وقد أُعدم بعض من أُسر في الأنفال الخامسة أو تمّ احتجازهم في معسكر سپیلك أو معتقل أمن أربيل. إلا أنّ القوات العراقية فشلت في السيطرة الكاملة على السكان المدنيين أو منعهم من الفرار، حيث تمكن عددٌ كبير منهم من اللجوء إلى الأراضي الإيرانية، مما أفسد على النظام خططه الميدانية.
وأشارت وثائق النظام نفسه إلى أنّ الأنفال الخامسة لم تحقق أهدافها الاستراتيجية بالكامل، كما ورد في تقريرٍ سريٍّ بعنوان “فشل عملية الأنفال النهائية”، رفعه اللواء الركن يونس محمد الزَرب إلى القيادة العامة للجيش، وأقرّ فيه بصعوبة الميدان وشدة مقاومة المقاتلين الأكراد.
بعد نهاية الأنفال الخامسة في 7 حزيران 1988، شرع النظام في الإعداد لتنفيذ الأنفال السادسة. وقد رفع اللواء الزَرب تقريراً سرياً خاصاً برقم 1475 بتاريخ 30 أيار 1988 إلى رئاسة أركان الجيش، يشرح فيه خطة “تطهير” واديي باليِسان وآلان. إلا أنه في 7 حزيران طلب تأجيل العملية بسبب الظروف المناخية والطبيعية القاسية. لكن القيادة العامة أصدرت أمراً خاصاً رقم 519 بتاريخ 7 حزيران 1988، يقضي بتنفيذ الخطة فوراً دون تأجيل.
كان السبب الرئيسي للتأخير هو تحصّن قوات البيشمركة في جبال كوراگ وكوردەڵ التي يبلغ ارتفاعها نحو 7000 متر، وصعوبة الوصول إليها.
وتشير الوثائق إلى أنّ هذه المراحل من الأنفال جرت بإشرافٍ مباشر من صدام حسين نفسه، إذ ورد في تقريرٍ سريٍ للغاية رقم 14671 بتاريخ 16 تموز 1988 من مكتب رئاسة الجمهورية إلى رئاسة أركان الجيش، بأنّ العملية تواجه “صعوباتٍ ميدانية تتطلب إشرافاً رئاسياً مباشراً”.
وفي 20 تموز 1988، أصدرت رئاسة أركان الجيش مذكرةً سريةً أخرى رقم 861 إلى القيادة العامة، جاء فيها:
“يجب أن تُستأنف عمليات الأنفال بعد عيد الأضحى بهجومٍ أكبر حجماً وأوسع نطاقاً.”
لكن رغم انقضاء عيد الأضحى، لم تُنفذ الهجمات على الفور.
وفي 29 تموز 1988، عقد مساعد رئيس أركان الجيش لشؤون العمليات اجتماعاً موسعاً في مقر الفيلق الأول بكركوك، صدر عنه بلاغٌ سري رقم 943 يقضي بتأجيل عمليات الأنفال السادسة والسابعة مؤقتاً لحين استكمال التحضيرات اللوجستية.
كانت تلك أخطر وأصعب المراحل في حياة سكان كردستان، إذ تزامنت مع نهاية الحرب العراقية الإيرانية. ففي 17 تموز 1988 قبلت إيران القرار 598 لمجلس الأمن الدولي، وأُعلن وقف إطلاق النار رسمياً في 8 آب 1988، الأمر الذي أثر سلباً على معنويات قوات البيشمركة.
وبعد أيامٍ قليلة، شنّ سلاح الجو العراقي هجوماً كيميائياً مكثفاً جديداً على مناطق باليِسان، ملەكان، وەرتی، هيران، سماقولي، مخلفاً مئات الضحايا.
أرسل بعض المستشارين المحليين (المختارين) رسائل إلى السكان يدعونهم فيها إلى تسليم أنفسهم وأسلحتهم مقابل العفو. وقد صدّق كثيرون تلك الوعود، فسلّموا أنفسهم، لكنهم اختفوا قسراً لاحقاً، وتبيّن لاحقاً أنّهم أُعدموا جماعياً في حملات الأنفال.
تشير التقديرات إلى أنه خلال هذه المراحل الثلاث (الأنفال الخامسة والسادسة والسابعة) تمّ تدمير أكثر من 52 قرية في نواحي خليفان، رواندز، خوشناوەتي، حيث بلغ عدد العائلات المهجّرة 2602 عائلة، ودُمّرت 24 مدرسة و52 مسجداً، وأُحرقت مئات الأشجار والبساتين التي كانت المصدر الاقتصادي الرئيس لسكان المنطقة.
المصادر:
الوثائق الرسمية لحزب البعث المنحلّ *
وتشير إلى الملفات والمراسلات والوثائق التي تعود إلى حزب البعث المنحلّ رسميًّا بعد عام 2003.



Leave feedback about this